الجمعة، ديسمبر 06، 2013

(( .. قصّة قصيرة .. ))


بسم الله الرّحمن الرّحيم







سارة فتاة جميلة موهوبة تبلغ من العمر عشر سنوات تعيش في

 منزل بسيط مع أب مهمل، وزوجته المتسلطة، وهي الزوجة

 الثانية التي تزوجها بعد مرور بضعة أشهر من وفاة والدة سارة.

كان لسارة أخ من أبيها يُدعى فهد، وكان (دلّوع البيت)، فأبوه يعطيه


 كلّ شيء بلا حدود! ولا يرضى عليه أبدًا.

تمرّ الأيام والسنين، وزوجة الأب تضرب سارة لأتفه


 الأسباب، وكلما رأت سارة تمارس هوايتها (الرّسم) تقوم بتمزيق
لوحاتها بعد الإنتهاء منها هكذا بلا أي مبررات! فقط الغيرة والحقد.

كان أخاها فهد يصطنع الكذبات كي يرى كيف تُضرب سارة من قبل

أبيها أمامه، فقد كان يرى في ذلك متعة وإثارة لاسيما حينما يراها
تبكي بألم، فيأتي إليها، ويقف أمامها منتشيًا مبتسمًا، فتكتفي
المسكينة بنظرات حزينة وكأنها تسأله عن أي ذنب اقترفته كي 

يحصل لها هذا؟

مضت خمس سنوات، والمعاملة القاسية مازالت تعانيها


 بل حتى لما دخلت الجامعة .. لم تسلم من إزعاج زوجة أبيها
التي كانت تشغلها عن استذكار دروسها، فقد كانت تكلّفها


 بأعمال منزليه منذ مجيئها من الجامعة حتى منتصف الليل.

وفي إحدى الليالي .. رأت ساره أخيها فهد يقوم بسرقة المال


 من محفظة والده، فلما علم بوجودها .. أخفى المحفظة خلف ظهره
محاولًا صرف نظرها عنه لكنها أخبرته بأنها رأته يسرق المال!


 فارتبك لذلك الأمر، وطلب منها أن يكون الأمر سرًّا.

مضى أسبوع وكان يعاملها معاملة جميلة ! فاعتقدت أنّ نصف

مشاكلها قد انتهت! ولكن بعد هذا الأسبوع حدث مالم تتوقعه!

وهو أنّ أخيها عاد إلى طبعه القاسي السيء.

رُبما السبب في عودة فهد إلى طبعه هو لأنّه أنفق المال الذي


 سرقه، وحينها لن يكون هنالك أيّ دليل يثبت صحة كلام ساره!
ورغم قساوته إلّا أنّها كانت تُحبّه وتخشى عليه من كل سوء.

مضى شهر، وعاود فهد السرقة لكنّ هذه المرّة اكتشفه أباه بنفسه


 الذي لم يتمالك أعصابه، وكانت بجانبه عصاه الغليظة، فقام
بضربه، وفهد يحاول الهرب من تلك الضربات المؤلمة! وبعد


 محاولات .. هرب خارج الغرفة.

ولما رأى أخته .. احتمى بها، وقال بخوف:
- أرجوك يا أختي .. أنقذيني.

جاء الأب مكشّرًا عن انيابه رافعًا العصا عاليًا، فصرخ غاضبًا:
- ابتعدي عنه وإلّا ضربتك معه.

فكرت ساره سريعًا، وقالت في نفسها:
- لقد جربتُ تلك العصا على مدى سنوات! فقد صارت لديّ


مناعة، لذا لا بأس من تحمّلها لأجل أخي الصغير.

فردت على أبيها بحزم:
- سأحتمل يا أبي كل ضرباتك إن كان ذلك سيشفي غليل غضبك.
- حسنا .. تحمّلي ذلك أيّتها البلهاء.

انحنت ساره على أخيها فهد تحميه من الضربات، وأباها يضرب

ظهرها بعنف! حتى هدأ ورجع إلى غرفته، أما فهد فقد دمعت
عيناه حينما رأى ابتسامة أخته رغم شدة الألم، فسألها 

باستغراب شديد:
- لم فعلت كل ذلك لأجلي رغم أنّني سببتُ لك الكثير من المتاعب


 على مدار سنوات؟

أجابته بابتسامة تخفي وجعًا عميقًا:
- فقط لأنّك أخي الصغير الذي لطالما دعوتُ الله أنْ يرزقنا بك.

فهد رغم ما حدث منكَ .. فأنا أحبّك، وسأبقى أحبك حتّى أموت.


لم يتمالك فهد نفسه، فارتمى بحضن أخته، وبكى بكاء شديدًا، واعتذر


 منها عما بدر منه في تلك السنين.

مرت سنة ونصف، فأصيبت ساره بمرض مزمن كالذي أصاب


 والدتها أدخلها العناية الفائقة. 

انطلق أبيها وزوجته وفهد إلى المستشفى ينتظرونها خارج غرفة العناية .

كان فهد يتمتم بالدعاء راجيًا الله أنْ يشفي أخته! والدموع تحرق

وجنتيه، أما أباه فكان متوتّرًا يفكّر بأمر ابنته بينما تلك القاسية

جالسة واضعة قدمها اليمنى فوق اليسرى بلا مبالاة.

بعدما انتهى الأطباء من علاجها ... خرج أحدهم ليخبرهم بأنّ


العملية انتهت لكنّها مازالت تحتاج إلى علاج، فحالتها خطرة جدًّا.

ولما استفاقت بعد ساعات ... سمح لهم الطبيب بالدخول عليها


 للاطمئنان على سلامتها، فلما دخلوا تفاجئوا بابتسامة يشع منها النور!
استغربوا من ذلك، فقبّل أباها رأسها، ثم قبّلت الزوجة رأسها بغير


 طيب نفس! أما أخيها فقد احتضنها يبكي بحرقة، فقالت له مهدئة:
- أرجوك يا فهد .. إنّ هذا المرض رحمة من الله لي، وسيكفر


 به جميع خطيئاتي.
- لا أذكر لك أي خطيئة يا سارة، فأنت الطاهرة النقية.

ردت سارة معترضة:
- لا يا فهد، فكلّ ابن آدم خطّاء، وكلنا نذنب، فما أعاني منه


 هو كفّارة لذنوبي.

تأفّفت تلك القاسية، وقالت:
- إنّ لديّ أعمالٌ كثيرة، أظن أنّنا اكتفينا من زيارتها! لنذهب.

قبل خروجهم، دعا لها أبيها، وودّعها فهد بعيون يغمرهما


الدموع، وهي تلوح له مبتسمة.

بعد أسبوع .. اتصل الطبيب بأبيها قائلا له:
- أرجوك استعجل المجيء يا أبا ساره، فابنتك حالتها خطرة جدًّا.
- اوه يا إلهي! حسنًا سآتي إليكم حالًا.

استئذن من مدير عمله، ثم خرج إلى سيارته، وهو يتمتم:
- إلهي أرجوك! ارحم ضعف قوتي. اشفي ابنتي يا الله.

ثم أطرق رأسه، وواصل بنبرة حزينة:
- وإن كان هذا يومها، فصّبر قلبي. 

أشغل محرك السياره، وفي طريقه .. تراءت أمام عينيه ذكريات

بعيده حينما كانت سارة طفلة تلهو امامه وزوجته الراحله وهي

 تقول لهما بوجهها البريء:
-أحبك بابا . أحبك ماما.

خنقته العبرة، وتحشرج صوته قائلًا:
- أعذريني أرجوك يا سارة، فقد ظلمتك لسنوات. آه ليت تلك


 السنوات تعود!

وصل إلى المستشفى، وتوجه إلى غرفة العناية، وهناك كانت

الغرفة مغلقة، فانتظر خارجًا، وبعد مضي برهة من الوقت 
خرج إليه الطبيب مطأطأً رأسه بأسى، فارتسمت علامات الذهول

 والحزن على وجه أبا ساره الذي تقدم ببطئ
إلى الطبيب يسأله عن ابنته، فأشاح عنه، وأجابه:
- عظّم الله أجرك يا أبا ساره، فلم نستطع إنقاذها.

لم يحتمل تلك الصدمة، فرجع بضع خطوات إلى الوراء، وجلس

على أحد المقاعد، وانحنى بظهره، ووضع يديه على عينيه
 يجهش بالبكاء! يبكي وهو يتذكر أيامها حينما كانت
 تبتسم له، وأحيانا تعتني به عندما يمرض، واحيانا يتذكرها
عندما كان يحملها بين يديه ويقبلها ويداعبها.


بعدما هدأ، قال للطبيب بعينين دامعتين:
- أرجوك أريد رؤيتها الآن.

سمح له الطبيب بذلك، فدخل عليها، فرآها مغطاة بالغطاء

الأبيض، فتقدم ناحيتها، وأزاحه عن وجهها ببطئ، والدموع تنسكب 
من عينيه، فلما رأى وجهها، لم يحتمل ذلك، فانفجر باكيًا بألم

 وبشوق إليها، وهو يقول:
- يا إلهي، عفوك ورحمتك! صبر قلبي الضعيف، فألم فراقها فظيع 


قد مزّق أوصالي.

ربت الطبيب على كتفه قائلًا:
- هي الآن تريد منك الدعاء فقط، انظر إلى ابتسامتها التي تشع

نورًا، ألا يخفف هذا من ألمك؟ أتعلم؟ ساخبرك بشيء. قبل إجرائنا
 للعملية، كانت تتمتم " أبي لعزيز .. فهد حبيبي .. زوجة

أبي ... أحبكم رغم كل شيء "،و أثناء العملية رفعت سبابتها
ونطقت الشهادتين، ثم ماتت! 

مسح الأب دموعه، وحمد الله على ذلك، وألقى عليها نظراته


الأخيره، ثم غادر المشفى.

عاد إلى المنزل، وأخبر زوجته وابنه فهد بخبر وفاتها، وما قالته

قبل العملية، فبكى فهد بشدة بل لم يحتمل ذلك، فذهب إلى المستشفى
ليراها، ومن حسن حظه ... استطاع رؤيتها قبل أن يأخذوها إلى

 ثلاجة الموتى.

أزاح الغطا، والألم يعتصر قلبه! ولما رأى ابتسامتها، بكى وقال:
- يا الله! كم أنتِ عظيمة يا سارة! كم عانيت من القسوة والبؤس،

 ورغم ذلك لم تفارقك ابتسامتك حتى عند الموت. أعدك يا أختي
 أنّني سأتغير، وساكون أفضل. أنتِ خير قدوة لي في حياتك .. وبعد مماتك.



- إنتهت بفضل الله -



أرق تحيــة