الاثنين، أغسطس 18، 2014

(( .. وتلاشى كُل شيء .. ))


       بسم الله الرّحمن الرّحيم









   ركب أحمد الطائرة التّابعة للخطوط الجّويّة الكويتيّة، ليعود إلى الكويت .. بعد خمس سنوات من الإقامة في لندن لنيْلِ الجنسية البريطانيّة.

   بعد لحظات،أقلعت الطائرة نحو الأفق. وعلى مقعده الملاصق للنافذة، راح يلقي بصره إلى السّماء، فأعجبه منظر الغيوم الكثيفة كيف تكوّنت وتجمّعت، وكيف تسير بشكل يثير الإعجاب وتقديس الخالق. ثم أخذته الذَكريات إلى ما قبل خمس سنين، حين تقدّم لفتاة، كانت تدرس معه في الجامعة، فأعجبته، وأحبّها لكنّه لم يقدم على علاقة معها. فقرّر العزم على خطبتها. وذات يوم، لحقها إلى منزلها، وقام بتدوين عنوانها، ثم عاد لمنزله.

   أخبر والدته بالأمر، وصارحها بأنه يريد الزواج. فاستبشرت كثيرًا، ووعدته أن تذهب لخطبتها له حالما تنتهي من طهي العشاء. وعندما انتهت، رافقت ابنها إلى منزل الفتاة، فطرق أحمد الباب. وبعد دقيقة، خرج رجل عجوز طاعن في السّن، وقد ارتخى حاجباه على عينيه، فسألهما:
-من أنتما؟

   أجابه أحمد:
-أهلًا، أدْعى أحمد. وهذه أمّي، تريد مقابلة زوجتك.

   تنهّد العجوز، وهزّ رأسه بحزن، مجيبًا:
-توفيّت زوجتي رحمها الله قبل سنة، وليس أحدٌ هنا سوى ابنتي الوحيدة.

  ثم أردف:
-أمهلني دقائق قليلة.

   بعد ثلاث دقائق، خرج العجوز، وطلب من أحمد الدخول إلى مجلس الرّجال، بينما دخلت الأم إلى صالة المنزل.

  دار حوار طويل بين أحمد ووالد الفتاة، حيث أخبره الشّاب بأنّه يريد خطبة ابنته، وأنّه رآها في الجامعة محتمشة بأخلاقها ولباسها، فنالت إعجابه. وحين علم العجوز بأنّ أحمد لا يمتلك الجنسية، رفض طلبه بإصرار! فسكت الشّاب مغتمًّا لبرهة من التفكير، ثم سأل:
-ولو تجنّستُ خلال خمس سنوات، هل ستوافق لو أتيتُ وطلبتُ يدها؟

  ضحك العجوز، وأجاب:
-لو كنتُ حيًّا، سأوافق.

  عند تلك اللحظة، أيقظه صوت شخير بجانبه منٓ الإبحار في ذكرياته وتأمّلاته. كان الصّوت المُزعج يصدر من صديقه، المرافق معه في هذه لرحلة الطّويلة. ابتسم أحمد لمنظر صديقه، ثم التفت للنافذة من جديد، فظهر انعكاسة صورته عليها. وتمتم بأمل:
-إنّها مجرّد مسألة وقت يا خلود، وستكونين لي.

     بعد ساعات طويلة، وصلت الطّائرة أرض مطار الكويت الدّولي، في وقت العصر. فأيقظ أحمد صديقه، وبعدما قاما بإجراءات العودة، ركبا سيارتهم، المركونة في مواقف المدى البعيد، ثم انطلقا.

   نزل أحمد أمام منزله، ودخل إلى أمّه وإخوته يسلم عليهم، ثم قال لوالدته:
-لنذهب لخطبتها.

  تعجّبت الأمّ، قائلة:
-ارتح قليلًا يا بُني، واصبر إلى الغد.
-الأمر لا يحتمل الصبر. أرجوكِ، لنذهب حالًا.
-يالكٓ منْ عنيد! سنذهب، سنذهب.

    ارتدت الأم عباءتها، ثم ذهبا إلى منزل الفتاة. نزل أحمد من سيّارته، وقبل أنْ يطرق الباب، تفاجأ بخروج طفلٍ صغيرٍ من المنزل! استغرب، وتساءل لمن يكون هذا الطّفل! فخرجت بعد ثوانٍ .. امرأةٌ تغطّي رأسها بشالٍ أسود، وبطرف الشّال الطّويل .. تغطّي نصف وجهها. فرأت شابًّا غريبًا واقفًا أمام منزلها، فدخلت بسرعه، وعيناها تترقّبان الطّفل. 

   أشار أحمد لوالدته، فنزلت، ودخلت إلى المنزل. ثم مضى الشّاب إلى الطّفل، وكان قلبه يخفق بشدّة وقلق. فهو متأكد أنّه ليس لديها إخوةٌ أو أخوات!  ثمّ انحنى عليه، ومسح رأسه برفق، وعلى شفتيه اتسعت ابتسامته، فقال له:
-حبيبي، ما إسمك؟
-كالد (خالد).

   ثم تردّد يسأله السّؤال الآخر! شعر بأنّ لسانه أصبح ثقيلًا جدًّا. فأجبر نفسه على نطقه بتثاقل:
-م.. منْ ... هي أمّك؟
-كلود.

   بدت صدمة عنيفة على قلبه، وفتح عيناه على وسعهما دهشةً، ثم حسرةً على ما حصل! فتراءت أمامه المغامرات والمخاطر والتضحيات لأجل أنْ تكون له زوجةً، لكن كل ذلك تلاشى في مهبّ الرّيح.

   تمالك نفسه، ثم عاد وطرق الباب، وكان وجهه شاردًا، لا يعلم ماذا يفعل! واعتقد أنّ العجوز قد خان وعده. ثم خرجت والدته له بوجه حزينٍ، تخبره بأنّ العجوز قد توفيّ، بعدما جئنا لخطبتها في المرّة السّابقة، ببضع شهور. وحين لم تستطع العيش وحيدةً، طلب يدها خال صديقتها، فقبلت به زوجًا.

   كان أحمد مشتّت الذّهن، محطّم القلب. ورغم ذلك، استطاع أنْ يصبر، ويحتمل هذا الألم في قلبه. ثم أشار لوالدته، دون أنْ ينطق بحرف، أنْ تركب السّيارة، ويعودا إلى المنزل.

الاثنين، أغسطس 11، 2014

(( .. رواية: قبضة الهَلاك .. ))


الفصل الحادي والثلاثون (الأخير)

قبضةُ الهَلاك


    وصل شهيد مع قوة من رجال الشرطة يصحبهم بكر، أمام الاسطبل، وكان المكان خاويًا من السّيّارات والبشر، بل حتّى مصابيح الاسطبلات المجاورة كلها مُطفئة. فأشار اللواء لقوّاته أنْ يقتحموه، فدخل بعضٌ منْهم، وبقي البعض الآخر عند سيّاراتهم.

     تقصّوا البحث عن اللصوص، فلم يجدوهم فكلّم أحدهم، عبر جهاز اللاسلكي، اللواءَ يخبرهُ بعدم وجود أحد. ولم تمر ثواني حتّى دوى انفجار في الاسطبل، قد هزّ المكان، وتساقط من في الخارج على الأرض.

     بعد لحظات، قاموا ونفضوا عنْ أجسادهم التّراب، ثم قال بكر بهلع:
- سووها النّذاله، والله هم! 

    سأله شهيد:
-وانت شدراك انهم هم؟
-لأنْ أمس هدّدتهم إنّي بجيب الشّرطة لهم، والظّاهر حطوا متفجّرات.

   ثم أمر اللواء قوّاته بأنْ يتّصلوا بالطوارئ حالًا، ثم تقدّم إلى الاسطبل ليلقي نظرة إلى الدّاخل، فسمع صوتًا من خلفه، جعله يلتفت سريعًا بقلق، فرأى سيارات الشّرطة تحترق، وبعض أصحابه مشتعلين بالنّار يصرخون، وقليل منهم تطايرت أشلاؤهم إلى البعيد.

   كان مذهولًا من هول ما رآه، فوقف حزينًا على ما يحصل، ثم التفت يمينًا وشمالًا، فوجد في الجهة الأخرى أحد رجاله، الذين لم يصبهم الكثير من الضرر. فانطلق إليه، فوجده يلهث يريد ماءً. 

   نظر شهيد حوله، فرأى على طول بصره بقّالةً، في نهاية الشّارع. فهرع إليها يركض، واشترى ماءً، وحين عاد .. وجد صديقه لا يتنفّس، وفي منتصف رأسه رصاصة غارت إلى داخل دماغه .. أردته قتيلًا. فصُعق من ذلك، وتساءل عمّن يكون وراء هذا الأمر. فشعر، عند ذاك، بشخصٍ يضع سلاحه خلف ظهره من ناحية القلب .. ثم أمره بأنْ يقف، ويضع يديه خلف رأسه، وهدّده بألّا يحاول المقاومة.

   ابتسم اللواء بسخرية، قائلًا:
-طلعت أنت ورى هذا كله يا بكر! لا تقول أنّك الأناكوندا أو الرّاكون!! أو يمكن تكون زهرة الجحيم بنفسها .. متنكرة على هيئة ولد!  

   ثم جاءه اتّصال من النّقيب عادل، فاستئذن اللواء من بكر بأنْ يجيب، فأذن له بذلك بشرط أنْ يضع السّمّاعة الخارجيّة. 

ردّ شهيد عليه، فقال النّقيب له:
-سيدي، ألقينا القبض على القطوة السودا في قارب عالبحر، ومعاها وحده انتحرت. وكذلك الكارثه .. مسكناه والحين نتخذ معاهم الاجراءات. 

   جحظت عينا بكر ذهولًا حين سمع ما قاله النّقيب.

   أكمل عادل:
-والحين باجي ثلاثة من أعضاء العصابة، زهرة الجحيم، واللي مازلنا نبحث عنها. وفي اثنين ما عرفنا عنهم إلّا ألقابهم، الأناكوندا والرّاكون.

    ردّ اللواء:
-عمل ممتاز، شدّوا حيلكم، وتقصّوا البحث عن هالاثنين، لازم تلقونهم.

    قام بكر، حينها، بإقفال المكالمة، وقال لشهيد:
-أنا الرّاكون، واللي حصل مع مشعل .. كله تمثيلية مني عشان أنتقم للزعيمة. كنت تمنّيت مشعل يجي عشان أقتله معاكم بس للأسف أنّه انشغل.

    نظر اللواء إلى الأسفل، وقطّب جبينه، ثم قال بأسى:
-للأسف إنْ مشعل وثق فيك حدّ ما اعتقد انّك صديق مقرّب ...

   قطع بكر كلامه بصرخه:
-انثبر! أي صداقه تسولف عنها؟ مشعل كان غبي لما صدّق إنّي رفيجه. كنت من ضمن الجواسيس اللي أرسلتهم الأركه الله يرحمها له .. عشان نعرف حقيقته ثم  نوصل لك .. ونغتالك، ونرتاح.

   ضحك شهيد، وقال له بلهجة تهكّميّة:
-مسكين يا بكر، تبي تغتالني؟ على فكرة، ترى أنتَ استخدمت أسلوب همجي مع الشخص الغير المناسب.

   بدت الحيرة على وجه بكر، وسأله عن مقصده. فأجابه اللواء:
-الحين راح تعرف.

   قام اللواء بحركة مباغتة عبر قدمه، حيث ركل السلاح بعقب القدم، ثم التفت بمرونة، ومسك يدا بكر، ثم ضرب على ركبتيْه، فأسقطه أرضًا، ثم جثى على صدره، وأخرج سلاحًا من جيبه، ووضعه في وجهه يهدّده، ويقول له:
-عرفت الحين ليش قلت لك اني مو الشخص المناسب؟ يا غبي، أنا كنت بطل الكاراتيه لما كنت بكبرك، وليتك دريت بهالشي قبل لا تسوي فعلتك الغبيه هذي.

   استسلم بكر، ولم يبدِ مقاومةً. فقيّده شهيد، وجلس بجانب المُجرم، مُنتظرًا أنْ يأتيَ رجال الدّاخلية بسياراتهم .. ليقتادوه إلى المخفر.

    ثم اتّصل بصديقه مشعل، وأخبره بالخبر، فلم تظهر منه أية مشاعر للصدمة، لأنّه أحسّ بهذا منْ قبل، لكنّه لم يتيقّن من هذا الإحساس بدليل قاطع. فأثنى على اللواء، وشكره.


***

    وقتذاك، كانت آسيه في الصالون الخاص بها. وحين انتهت العاملة من عملها، قالت:
- آسيه، اليوم شفت صورتج بالتلفزيون .. يقولون انج هاربه .. واللي يمسكج يعطونه مبلغ كبير!

ردت آسية بزهو:
- ما يهموني دام اني غيرت ملامح وجهي! الفجر راح تطير طيارتي .. وأودّع الديره.
- بس يا آسيه ...

    فسكتت العامله!

    قالت آسيه:
- شنو بس؟ كملي!!

     قلبت العامله عينيها، وفكّرت فيما تريد فعله. ولما أطالت ذلك، قالت آسيه بلامبالاه:
- على كلٍّ، أنا بمشي الحين ... وأشكرج على كل شي.

    ثم تقدّمت إلى الباب الخارجي، فتبعتها العاملة ببطئ، ولما أحست آسيه بوجودها خلفها، تركتها هكذا لترى ماذا ستفعل!

      كان بيد العامله حبلًا، فرفعته بكلتا يديها عاليًا، فأدخلت آسيه يدها إلى جيبها بحركة بطيئة، دون أنْ تشعر المرأة بها، ثم توقّفت فجأة بمكانها، وأخرجت من الجيب حربةً .. غرستها في بطن عاملتها.

     قالت لها آسية بنبره شريره، وهي تمزق أحشاءها:
- لا تحاولين تلعبين معاي. شنو فادج تفكيرج بالفلوس؟ يلا موتي .. قلعتج لجهنّم.

      ثم أخرجت الحربة منْ بطنها، فتبعه دم متناثر كحمم البراكين المتفجّره، فمسحت الدّم من النّصل بالمنديل، وخرجت من الصالون. توجّهت إلى سيارتها، فلما دخلت، وأشغلت المذياع، سمعت مذيع النشرة الإخباريه يتحدث عنْها، فعلت شفتيها ابتسامة ماكره، وقالت:
- من صجهم هذيله؟ مصدقين أعمارهم يمسكوني؟ وربي تحلمون يا أغبياء.

    ثم أردفت:
- خل أروح مركز سلطان اللي صوب البحر .. أشتري جم شغله حق السفر.

***

      بعد ساعة من ذلك الحدث، ذهبت ليلى مع أخيها طلال إلى مركز سلطان، المطل على بحر الخليج. وبعدما تبضّعت وانتهت، خرجت إلى مواقف السيارات، فتبعتهم فتاة قد رأتهما في الداخل.

    نادت الفتاة على ليلى، فالتفتت إليها، ودققت النظر ناحيتها، فسألتها:
- عفوًا، ناديتيني؟

      تقدمت الفتاة حتى وقفت بمسافة قريبة بمواجهة ليلى، وقالت:
- أظن انتي اللي يسمونج قبضة الهلاك؟
- عدل!

      ضحكت الفتاة ضحكة خفيفه يملؤها الكبرياء، وقالت:
- أظن تتذكرين الزعيمه نوف؟

    وضعت ليلى يدها على خاصرتها، وأجابت بتململ واضح:
- الزعيمه نوف؟ لا يكون انتي من عصابتها؟

    سألها طلال بقضول شديد:
-وانتي منو؟

    نظرت إليه الفتاة، مجيبةً:
-أوه! طلال، ليلى صارت رفيجتك؟

    ردّ عليها بنبرة حادّة:
-أختي مو رفيجتي.

     رفعت حاجبيها دهشةً، ثم ابتسمت، وردّت:
-يعني كنت تجذب على الزّعيمة طول ذيج السنين، وتقول ان ما عندك أهل ...

   قاطع كلامها بإصرار، وبسؤال:
-منو تكونين انتي؟

   أجابته بنبرة غرور:
-آنا زهرة الجحيم، بوجهي اليديد.

    علقت ليلى بنبرة تهكمية:
- زهرة الجحيم!! مستانسه بهالاسم؟ الله يهديج ويرزقج جنته. قولي شعندج؟ خلصيني!! وراي أشغال.

    أصابت كلمات ليلى التهكمية شيئًا في قلب آسية. فتمالكت الشّريرة نفسها، وردت بهدوء:
- ودي أذكرج بكلمه انتي قلتيها في حقها قبل فتره .. وللأسف، ان مريم ما عرفت تاخذ حق الزعيمه منّج!!!
- يعني قصدج انتي تبين تنتقمين لها الحين؟

    تدخّل طلال، قائلًا لأخته:
-خليها لي يا ليلى، واسبقيني للسّيّارة.

    قالت زهرة ساخرة:
-أناكوندا، تدافع عن عدو الزعيمه؟ يعني صرت خاين! مو مشكلة، أنت كنت مجرّد قاتل فاشل، يعني وجودك مثل عدمك. والعصابه ما ظل أحد منهم، وراح أنهي وجودك من الحياة بنفسي.
-تخسين وتعقبين، ما بقى إلّا انتي تقتليني.

    كانت ليلى شاردة قليلًا، فقد أشغلها لقب زهره أكثر، ثم قالت مستذكرةً:
- لحظة! مو انتي اللي حاطين صورج اليوم بالتلفزيون؟

     أومأت آسيه بالإيجاب بكل ثقه.

    همست ليلى في نفسها:
- أوه ... عيل هي اللي اغتالت جوري في الانفجار اللي هز الكويت والعالم!!! نذله حقيره .. والله راح تندمين! حتى مغيره ملامحج عشان محد يعرفج .. راح أنتقم لكل بريء تلطخ دمه بيدد يالشيطانة الخبيثة.

     أخرجت آسيه حربتها، وأشارت بها نحو طلال، وقالت:
- ما تهمني تهديداتكم وثرثتكم. والحين، استعدّ للموت يا طلال ... وراح تلحق وراك أختك لعالم الأموات.

ردت ليلى بتحدٍّ وإصرار:
- لا والله .. انتي اللي بإذن الله راح تلحقين زعيمتكم المقبوره.

    قال طلال، موجّهًا كلام لليلى:
-تكفين خليها لي، بعلمها هالنّذله شلون تهدد.
-لا طلال، خلها لي. مو حلوه رجال يواجه بنت! ماراح أخيب ظنّك، وراح أبرّد جبدك.

    هجمت آسيه على ليلى، ووجهت إليها عدّة ضربات بحربتها، إلّا أنّها لم تخدش شيئًا منها.

     قامت ليلى بركل آسيه على بطنها، فأسقطتها بعيدًا. ثم قامت زهرة الجحيم بتباطئ، تتحامل ألم معدتها، فنظرت إلى ليلى بنصف عين مفتوحه، ثم استعادت بعضًا منْ قوتها من جديد.

     كانت الأنفاس تتسارع، والنظرات الحانقة تتقابل، يشتعل منهما الشرر، والقلوب يتزايد نبضها، والدم يغلي في العروق، والانتقام يجري في الشّرايين. وتجمّع القليل من المارة، لكنّهم لم يستطيعوا التّدخل خوفًا إلّا بضعًا منهم، فدنا أحدهم، محاولًا فكّ الشّجار .. لكنّ زهرة وجّهت إلى كتفه طعنة، فابتعد عنهما، وهدّدت الباقين بعدم التدّخل.

     غضبت ليلى من تصرّف آسية، فاندفعت نحوها، وقامت بتسديد لكمة نحو وجهها، فأمسكت الأخرى بقبضتها، وحاولت طعنها، لكنّ نصل الحربة .. لم يصل إلى بطنها لأنّها أمسكت يد زهرة الجحيم من معصمها. فقالت الشّيطانة:
- تخافين من الموت هااا؟
- ومنو ما يخاف منه يا غبيه؟

    فضربت ليلى مفصل قدم آسيه بقدمها اليسرى، وكادت أنْ تسقط على الأرض، فاعتدلت بجسدها، ثم احتمت بيديها من ضربات خصمها. ثم شعر الخصمان بالتعب، فتوقّفتا قليلًا، تنظر كل منهما إلى الأخرى، والأنفاس تخرج من خلال أفواههما بتسارع.

    وبعد لحظات، مرّت فتاة، لم يتجاوز عمرها الحادية عشر، تنظر إليهما بفضول.

    صاحت آسيه عليها:
- ذلفي مناك يلا! ترى هذا مو فيلم يا ماما .. يلا امشي مني.

   ظلت الفتاة تنظر بذهول! فاغتاظت آسيه منْ تصرفها، فتقدمت ناحيتها، ولطمتها على وجهها، وقالت:
- قلت لج ذلفي يعني ذلفي! ترى إنْ ما ذلفتي الحين .. أقتلج!

     وضعت الفتاة يدها على خدها، فخافت من تهديد آسيه، وبكت بصراخ عالٍ. فأحسّت آسيه بالانزعاج من صراخ الفتاة، فتهيّأت لطعنها.

     لم تتمالك ليلى ذلك المنظر القاسي، فاندفعت تركض  ناحية آسيه، فوجهت إلى بطنها أكثر من عشر
لكمات شديدة متتالية، ثم حملتها عاليا، وأنزلتها على الأرض بعنف على رأسها.

     شعرت البائسة آسيه بأنّ الدنيا تدور حولها، وكان رأسها ينزف الدّم .. جراء ارتطامه بصخرة حادّةٍ متوسطة الحجم. فحاولت النّهوض لكنّها لم تستطع.

     حملق طلال مشدوهًا على ما فعلته أخته، فهذه المرّة الأولى، التي يراها فيها غاضب بهذا الشّكل المخيف.

     وقفت ليلى أمام خصمها مباشرة، توجّه إليها نظرات تشتعل نارًا، قائلة لها:
- اللي مثلج المفروض ما يعيشون يا زهرة الجحيم! استعدي للموت.

     ضغطت ليلى بأصابع يدها اليمنى على رقبة زهره، ورفعتها قليلًا عن الأرض، ثم أحكمت قبضة يدها اليسرى بشدة .. حتى برزت عروقها، فوجّهت ضربة ساحقة عنيفة على منتصف الرأس، فأردتها صريعة على الفور!

     تنفّست ليلى بعمق، وقالت:
- اضطريتيني إنّي استخدم قبضة الهلاك .. اللي ما أستخدمها إلّا في الحالات الخطرة جدًّا.

     عندئذ، وصلت قوات الداخليه، فوجدوا ليلى واقفة عند جسد آسيه. فنزلوا، وصرخوا:
- استسلمي بلا مقاومة!

     رفعت ليلى يديها، فتقدموا إليها، وقيدوها. ووقف أحد رجال الشرطة عند جسد زهره الممدد، فتحسس نبضها، ثم هزّ رأسه بأسى، وأخبرهم بأنّها قد فارقت الحياة. ثم تم استدعاء الأدلّة الجنائية، فجاءوا، وقاموا بعملهم، ثم تبين لهم بأنّ الضحّية تُدعى آسية، وأكّدت ليلى لهم بأنّ القتيلة هي نفسها زهرة الجحيم.

    اتصل ضابط الواقعة بشهيد ليخبره بذلك، فسأله عما قام به، فأخبره بإسم القاتلة. فعلّق شهيد:
-قبضة الهلاك!

    رد الضابط بتعجب:
- لحظه! تصدق وأنا اقول وين شايف هالبنت! طلعت ليلى الملقبة بقبضة الهلاك.

   علّق شهيد بخيبة أمل على مقتل زهرة الجحيم:
- حسافه! كنت أتمنى ألقي عليها القبض وهي حيه! ما عليه، خذ ليلى للمخفر، واتخذ إجراءاتك.
- حاضر سيدي.


    ثم ابتسم اللواء برضًا وسرور، قائلًا:
- الحمدلله، الحين بقى بس الأناكوندا. ثم راح أقدر أنام وأنا مرتاح.


***

   كان طلال قد وصل بسيارته عند مخفر المنطقة، فركن سيارته، ودخل ليكون شاهدًا على الواقعة. فأحسّ هناك برهبة المكان، وهيبة رجال الدّاخلية، وهم يقومون بعملهم على أكمل وجه.

   طلبوا من ليلى الاتصال بولي أمرها، فقال لهم طلال بأنّه أخاها، لكنّهم أصرّوا بأنْ يأتيَ ولي الأمر بنفسه. فاتّصلت بأبيها، وجاء بعد ثلث ساعه. وانتشر الخبر في الكويت، وعلمت مريم عمّة شهيد بذلك، فاتّصلت بإبن أخيها، وطلبت منْه التوسّط، لكنّه رفض رفضًا قاطعًا. فألحّت عليه كثيرًا.

   أجابها في النّهاية، ليقطع أملها:
-الحقّ حقّ يا عمّه، وأنا مُحاسب على هذا الشيء في الدّنيا والآخرة! فأنا أعتذر.
-بس يا شهيد ....

   قال لها قبل أن تكمل:
-عمّه، أرجوج اعذريني، هذي مسئوليّتي. ولا تحاتين، ماراح يحكمون عليها بالإعدام، لأنّها دافعت عن نفسها، خصوصًا أنّ العصابة تضمر الشّر لها. ويمكن يتم تخفيف حكم السّجن عليها إذا حفظت القرآن .. وصار سلوكها ممتاز.

  اطمئنّت مريم، ثم شكرته، وأنهت المكالمة.

***

    خرج طلال من المخفر، وكانت نفسه تحدّثه بأنْ يعترف بجرائمه، لكنّه خشي الاعتراف، وقرّر أنْ يعيش بقيّة حياته بعيدًا عن أي عصابة إجراميّة. كما قرّر أنْ يقوم بأعمال صالحة وخيريّة تكفيرًا لكل ذنوبه.

***

    في صباح اليوم التّالي، خرجت حور من المستشفى، وذهبت إلى المدرسة متأخرة، فدخلت وقت الفرصة، فسلّمت على الناظرة، وأعطتها العذر الطّبي، ثم ذهبت إلى مكتب الوكيلة فوجدته مغلقًا، لأنّها غائبة بسبب الصّدمة التي تلقتها مما حصل مع إبنتها.

     ثم دخلت إلى ساحة المدرسة، فوجدت صديقاتها منقسمات إلى قسمين! قسم بزعامة أسماء، وقسم بزعامة معالي. فالأخرى، كان بجانبها حنان وخلود.

  علّقت حور باستغراب:
-شفيكم منقسمين؟ وشعندها خلود واقفه معاج يا معالي؟ غريبه شصاير بالدنيا!

   ردّت عليها بنبرة ثقة وغرور:
-قلت لها "تصيرين معاي وأدافع عنج" .. فوافقت. ما تشوفينها طلعت للساحه بالفرصة، مع أنّه مو من عوايدها.

    ابتسمت حور، ثم سألتهن عن هذا الانقسام، فأجابتها معالي بما حصل، وكذلك أسماء ومن معها. فضاق قلبها من هذا الأمر، فنصحتهن أنْ يعدن كما كُنّ صديقات. فرفضت معالي بشدّة، رغم وجود قبول بهذا الاقتراح من قبل أسماء.

   قالت حور لمعالي:
-خلّي عنّج الكبر، ترى هذيل رفيجاتنا من عمر .. مو من يوم ويومين. وبعدين ترى انتي الغلطانه، يعني من حقها ترد عليج من طرف خشمها. والله لو أنا مكانها جان سويت مثلها.

   التزمت معالي الصّمت، وكانت تشعر بحرقة في قلبها. فقالت أحلام وخلود معًا:
-صح كلام حور.

    استدارت معالي إليهما متعجّبةً، ثم أدارت وجهها نحو حور، فنظرت في وجهها، ثم أطرقت.

   قالت حور:
-معالي يا قلبي، خلاص انسي اللي راح! وسامحي، نظفي قلبج من الحقد. والله اللي حصل معاي بالمستشفى خلّاني أعيد حساباتي مع نفسي، وقرّرت أتغيّر، حتى بعتذر من الأبلة مزنه .. عشان أرتاح من التفكير السلبي اللي هلكني بسبب تصرّفات شيطانية.

   أيّدتها عصابة أسماء، وكذلك خلود وأحلام، أما معالي، فلم يعجبها هذا الكلام، فأشاحت بوجهها عنهنّ.

   ضحكت حور ضحكة خفيفة، وقالت بحسرة وأسف:
-الكبر ذابحج يا معالي. عمومًا، إحنا راح نتغيّر من اليوم، أمّا انتي، فخلّج بأحقادج اللي راح تاكل حياتج لين تموتين.

 ثم أردفت قبل أن تذهب:
-وحطي في بال أن المسامحه هي مثل آله تكنس كل وصاخة قلوبنا من حقد وكراهية.

  ثم مضت إلى قسم اللغ الإنجليزية، وتبعتها عصابة أسماء، وبقيت العصابة الأخرى. نظرت كُل من خلود وأحلام إلى معالي نظرة أخيرة، وكأنهنّ يستئذنانها للذّهاب للاعتذار، ثم تركتاها وحيدة تصارع كبرياءها.


***

     بعد مرور أسبوعين، انطلق شهيد وعائلته إلى المطار، فوجد هناك مشعل ونبراس وسعود .. بجانبهم أمتعتهم، فقال في نفسه:
- ومشعل هذا وين ما أروح القاه بوجهي! أتمنى ما يكون بعد مسافر لتركيا!

    طلب شهيد من عائلته الانتظار ريثما يذهب إلى أصدقائه، ويسلم عليهم قبل السفر.

     سار نحوهم. فقال نبراس بوجه مبتسم حين رآه آتيًا إليهم:
- أهلين شهيد.

     التفت مشعل إلى الخلف، وصاح:
- يالله حيوووووووووووووه .. على وين؟

   أجابه:
- والله رايح لتركيا، معزوم على عرس ولد خال زوجتي ... وانتو وين رايحين؟

   رد مشعل متباهيًا:
- حبيبي احنا رايحين البوسنه .. نبي نخطب شقر مناك .. تبي؟
- لا .. عندي وحده مكفيتني 

     همس مشعل في أذنه:
- حبيبي .. الشرع حلل لك اربع .. وهناك خذ لك ثلاثه، وترى مهرهم معقول، يعادل مهر وحده هني.

    اقتنع شهيد:
- والله خوش فكره! بس ياخي والله أخاف تصير مشاكل.
- يا حبيبي .. تتيسر بس شد حيلك واعدل عشان ما تكثر مشاكلك.
- ما أدري .. أفكر!

   وجّه شهيد نظره إلى سعود:
- أهلين سعود .. شلونك حبيبي؟ لبسك الوردي عجيب.

    رد سعود بنبرة رقيقه:
- اي اي حبيبي، آنا أمس ييت من بريتش .. والحين رايحين البوسنه .. لازم أونّس الشباب.

     عقّب شهيد في نفسه:
- ايييه فلوسك وايد! ليت عندي ربع ثروتك.

    ثم سأله:
- عساك بتتزوج بعد مثل ربعك؟
- لاا ويييه. توني صغير، بعيش حياتي .. لاحق على المسئولية.

    ضحك شهيد على تعليقه.

سأله مشعل:
-شصار على الناكوندا؟

   أجابه شهيد متنهّدًا:
-مافي أخبار عنه، وصارله أسبوعين ما نسمع عنه شي، ولا عن أي جريمة عنه. وكل المشتبه فيهم ينكرون أنّهم من ذيج العصابة. المشكلة مافي شي يثبت حقيقته، لا بصمات بالشّقه ولا غيره. فبروح تركيا .. أحضر العرس وأرجع أكمل تحرّيّاتي.
-الله يعينك ويسهّل أمرك. وشنو صار على اللي إسمها فستقه؟
-مازالت بغيبوبتها، وكل يوم تزداد حالتها خطورة. ويمكن تموت خلال أيّام.
-عسى يكون تكفير ذنوبها.
-آمين. يالله تروحون وتردّون بالسلامة يارب، في أمان الله.


***

       في تلك الليلة، كانت تشيريك قد أصبحت سمينه بشكل مفرط ومخيف. وتشيريف تستمتع بهذا المنظر، الذي يزيد شهوة الجوع، وموسيقى بطنها المغرغره.

     حينما شعرت تشيريف أنّ اللحظة قد حانت، قالت لصديقتها:
- تشيريك، أظن انج وصلتي لمرحله .. ماراح يستقبلج فيها كوكب المريخ!

    توقّفت تشيريك عن تناول وجبتها، وقالت:
- ليش؟
- نسيتي ان السمينات مالهم مكان بكوكبنا؟

     حاولت ان تلتفتت بوجهها ناحية تشيريف ... لكنها لم تستطع، فقالت بقلق:
- يالله .. وليش ما ذكرتيني من البدايه؟

ردت تشيريف بتحايل:
- نسيت! المهم، مافي أمل ترجعين، وأنا مليت الانتظار صراحه، ولازم نرجع! بس انتي راح توهقيني .. يعني لازم تشوفين لج حل!!!

    قالت تشيريك راجيه:
- الله يخليج .. شوفيلي حل انتي .. لاني ما أعرف شي! تكفين لا تخليني بروحي هني .. أخاااااااف.

قالت تشيريف بمكر:
- أنا عندي الحل.
- شنو هو؟
- غمضي عيونج ولا تبطلينهم إلّا لما أقولج .. زين! عشان بوريج مفاجأة.

    أغمضت تشيريك عينيها. ففتحت تشيريف فمها إلى أقصى حده، حيث أصبح واسعًا، يمكنه التهام طائرة سفر!

    غطّى فمها رأس تشيريك، ثم جسدها. فتساءلت السمينه عن هذا الظلام، والسوائل اللزجة، التي ملأت جسدها. وحين لم تجد إجابه من صاحبتها، فتحت عيناها، ونظرت حولها بخوف شديد، وصاحت:
- يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااي شنو هذا تشيريفوه؟

   بكل أسى، فقد فات الأوان، وابتلعت تشيريف صاحبتها تشيريك بأكملها، دون أنْ تمضغها كالأفاعي!

     قالت تشيريف، وهي تمسح على بطنها الكبيرة:
- واااااااااااااو شنو هذا؟ وربي ولا مجاعة كوكب بلوتو! أحس نفسي شبعت .. وعطيت نفسي حاجتها!
عوضت ذيج البشريه السمينه .. بهالفضائيه! يالله الحمدلله على كل نعمه، والحين لازم أرجع المريخ لأن وجودي هني ماله داعي، بس احتمال أرجع بعد ملايين السنين الأرضيه!

     ثم قالت لنفسها:
-وإذا سألوني عن تشيريك، بقولهم إنّها مرضت بسبب وجبة أكلتها وماتت، وحرقت جثتها مثل ما نحرق الجثث بكوكبنا. أما إذا سألوني عنْ حجم بطني، فراح أقولهم أنّي سويت نظام غذائي سيّء .. أكل وبعده نوم مباشرة، ولا رياضة ولا عملية هضم.

    ثم انطلقت تشيريف إلى الأفق مسرعةً، حتى اختفت من بين الغيوم.