السبت، مارس 14، 2015

(( .. لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))

بسم الله الرّحمن الرّحيم

روايـــــــــــــــــــــــــــــه

لغز الرّؤوس الثّلاثة




الفصل الأوّل



       تجمّع مجموعة من الفتية حول فتاة تُدعى ريينا، لها شعر غجري، لونٌ نادرٌ في بلدتها، حيث يميل إلى اللون الذّهبي، وعلى أطراف خصلتها لون كستنائي. كانوا يضربونها بلا رحمة، ثم سرقوا محفظتها، وهربوا.



صرخت ريينا باكية:

- تبًّا لكم أيّها الأشقياء، لن أسامحكم ما حييت.



مرّ من جانبها شاب ذو هيبة، وشخصية وقورة، يمشي بثبات، فلفت انتباهه تلك الفتاة الباكية، فمضى إليه، وسألها:
- ما بك يا فتاة؟



مسحت دموعها بطرف كم الثوب، واجابته:
- أوغاد صبية، ضربوني، وهربوا.
- لماذا؟
- لا أعلم، وقد سرقوا مني محفظتي.
- وكم سرقوا منك؟



فكّرت ريينا بحجم المبلغ، لكنها نسيته تمامًا. ثم برزت ابتسامة ماكرة على شفتيها، وقررت استغلال هذا الشاب، الذي بدا
لها أنّه ثري، فقالت له:
- أظن أنّ المبلغ مليون دينار.



ردّ عليها بلا مبالاة:
- مبلغ زهيد، سأسحب لك المبلغ حالًا.



دُهشت ريينا، وحملقت في وجهه غير مصدّقة بما سمعته، فردّت عليه ببلاهة:
- أأنت جاد؟
- وهل تظنّينني مازحًا؟ نعم جاد.



قالت ريينا في نفسها:
- يا إلهي، من أين جاءني هذا الكنز؟! سأستغله لمصلحتي، فأظنّه لديه ثروة ضخمة.



سلّم لها شيكًا بهذا المبلغ، فكاد أن يطير قلب الفتاة لولا أن ثبّته الله لها.



وحين هم الثري بالانصراف، سألته ريينا:
- عذرًا، ما إسمك؟
- وهل يهم؟
- ليس كثيرًا، لكن ..



قاطعها:
- "ليس كثيرًا"؟ إذًا، لا حاجة لك بمعرفة إسمي.



قالت بسرعة:
- يهمني حقيقةً.



أجابها:
- مشعل! وأهلًا بك.


(( لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))


الفصل الثّاني

مضى الشّاب، فلحقت به ريينا عن بعد، حتى رأته يدخل قصره المنيف، المبني من حجر الزمرّد الأخضر. دُهشت كثيرًا من هذا الصّرح الباذخ الجمال، فتلألأت عينيها على وقع تلألأ الحجر، فقالت بذهول:

- يااااه، ما هذا الذي أراه؟ أحقًّا هذا القصر موجود في هذه الدنيا؟ يا لجماله الأخّاذ.

انتظرت هناك لبرهةٍ، ثم سمعت أحدهم يقول من خلفها:
- هي أنتِ، ماذا تفعلين عندك؟

التفتت بخوف، وردّت عليه بتردد:
- لا شيء، لكن لفت انتباهي هذا القصر، فأحببت أن أراه.
- وهل انتهيتِ من رؤيته؟
- ليس بعد، فأنا أريد الدخول.

نظر إليها بازدراء، وقال:
- ومن تكونين أنتِ؟
- لا شأن لك! من أنت لتأتي وتزعجني؟

أخرج الرجل سيفه، وهددها قائلًا:
- أنا غسّان، الحارس الشخصي للسيد مشعل.

بلعت ريينا ريقها، وقالت له راجية:
- لم أقصد شيئًا. سأذهب، لكن لا تغضب!




وأثناء عودتها إلى منزلها، كانت تتمتم بتذمر:
- سأرجع إلى منزلنا، إلى تلك الأم البغيضة. كم أكرهها حين تصرخ في وجهي، وتوبّخني. 
لقد سئمت الحياة مع هذه العجوز.

وصلت إلى المنزل، ولما دخلت، استقبلتها والدتها بضربة بعصاها على جسدها، وصرخت عليها:
- أين كنت يا بلهاء؟

مسحت ريينا مكان الألم، وأجابتها:
- في بيت صديقتي فاطمة.
- فاطمة؟ تبًّا لك ولها، هيّا اذهبي للمطبخ، هناك الكثير من الصحون بانتظارك.

ردت بانزعاج:
- حسنًا حسنًا، سأذهب.


ذهبت إلى المطبخ، فرأت صحونًا متكدّسةً فوق بعضها، فامتعضت، ودخلت منزعجةً، وقامت بغسلها. وأثناء ذلك، كانت تفكّر بطريقة ما للهروب من هذا الجحيم، فجاءت في بالها فكرة شراء منزل بالقرب من القصر الأخضر، وتعمقت أكثر بهذه الفكرة .. إلى أن وجدت أنّها صائبة، وقررت شراءه.

بعدما أنهت عملها، سحبت نفسها بهدوء، واستغلت غفوة والدتها في صالة المنزل، فمشت على أطراف أصابعها، إلى أن خرجت، وابتعدت عن المنزل، فوجدت حصانًا قد تركه صاحبه لقضاء حاجته.

 فجاءت في بال ريينا فكرة شيطانية، وهي أنها ستسرقه، ليأخذها إلى القصر، وتترك في مكان الحصان مائة دينار.

ركبت الحصان، وانطلقت به، ووصلت خلال وقت قصير، فوجدت بعض المنازل المعروضة للبيع بأسعار لا تصل لأكثر من مائة ألف دينار، فاشترت واحدًا صغيرًا بعشرة آلالاف، وبعد أيّام، أصبح البيت مفروشًا ومؤثّثًا.

واشترت منظارًا ضخمًا، ووضعته فوق السطح لتترصّد تحركات أهل القصر، وتحاول اختراق جدرانه لكي تكون جزءً منهم.

وفي اليوم التالي، انطلقت إلى منزل فاطمة لتخبرها بشأن ما فعلته من سرقة للثري حتى هروبها، وعرضت عليها أن تعيش معها بدلًا من العيش في منزلها المتهالك. فوافقت صديقتها فورًا، وهربت معها إلى المنزل الجديد.

(( .. لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))


الفصل الثّالث



صعدت الفتاتان أعلى السطح، فقالت ريينا لصاحبتها:
- انظري، اشتريت هذا المنظار لأرصد تحرّكات أهل ذلك القصر، وسنخطط معًا لدخوله بأيّة طريقة.

أشادت فاطمة بخطّتها، وقالت لها:
- يعجبني تفكيرك يا صديقتي، يبدو أنّ ساكني هذا القصر لديهم البليارات، وربما أكثر.
- أجل صحيح، لأجل هذا، يجب أن نستغلهم، ونعيش معهم، ونسرقهم، ثم نشتري قصرًا بعيدًا من هنا.

ردّت صديقتها بحماس:
- رائع، وسنشتري المزيد من الخيل. يااااه سنصبح أثرياء.

بقيت الفتاتان هناك تراقبان وتخطّطان لمدة شهر، لكنهما وجدتا بأنّ ما جاء في بالهما لن يجدي نفعًا. وذات يومٍ، قرأتا إعلانًا يقول بأنّ الشّاب الثّري يريد خدمًا. فنظرت ريينا نحو صديقتها، وقالت لها بملامح كيدية:
-         ما رأيك؟

ابتسمت فاطمة، وأيّدت فكرتها قائلة:
-         فكرة رائعة، سنبدأ من هنا.

ذهبتا إلى القصر بثيابٍ رثّة طويلة وصفراء، وممزّقة من أماكن متفرّقة، ومرقّعٌة بخرقٍ من لونٍ آخر. حين وصلتا القصر، ادّعتا المسكنة، وقالتا بأنّهما تريدان العمل لدى الشّاب الثّري. فقال لهما حارس البوّابة، وهو يشير ناحية غرفة تقع مقابل الحديقة:
-         في تلك الغرفة يوجد رجل يدعى غسّان، اذهبا إليه، واملآ ورقة البيانات لديه.

 امتعض وجه ريينا حين سمعت بإسم الحارس الشخصي، ثم ذهبتا إلى غرفته. وفي طريقهما، قالت فاطمة لصاحبتها:
-         أليس غسّان هو الحارس الذي حدّثيني عنه؟
-         أجل هو، لا أريد أن يراني، ولا أريد رؤيته. لكن يؤسفني أنّني مُجبرة.

وجدتا أمام غرفته المزيد من النّسوة اللائي يردن العمل، فانتظرت الفتاتان دورهما على المقاعد. ثم دخلتا عليه، ولما جلست ريينا لتمليء بياناتها، كان غسّان يتدقّق النّظر في وجهها، ثم سألها:
-         ألم نلتقي من قبل؟

ردت عليه ريينا بإيماءة نافية خفيفة، دون أنْ ترفع عينيها عن الورقة:
-         لا، هذه أوّل مرّة أراك فيها.

تساءل الحارس في نفسه:
-         أقسم بأنّني رأيتها لكنّني نسيتُ أين! على كل حال، رُبما كان لقاؤنا عاديًّا.

انتهت ريينا، ثم جاء دور صديقتها، وبعدما انتهيتا، أخبرهما غسّان بأنْ يأتيا غدًا لقراءة الأسماء التي تم اختيارها على ورقة أمام القصر.
سألته فاطمة:
-         وهل الاختيار سيكون عشوائيًّا.

أجابها بالنّفي:
-         لا، بل سيرى سيدي الشّاب من يكنّ الأصلح لخدمته حسب ما يتوفّر لديه من معلومات عنكن في هذه الأوراق.

وأشار إلى كومة الأوراق على جانب الطّاولة. ثم استئذنته الشّابّتان، وعادتا إلى المنزل.

(( .. لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))


الفصل الرّابع


 وفي اليوم التّالي، كانت ريينا تشعر بخوف أكثر من صديقتها بعدم قبولهما للعمل بالقصر، حيث كانت تتمتم:
-         سُحقًا لذلك الحارس البغيض، سُحقًا له.

سألتها فاطمة مستغربة:
-         لماذا تتمتمين هكذا؟

ردّت بانزعاج:
-         أنا متأكدة بأنّه عرفني، وسيخبر مشعل بأنّني لستُ أهلًا للعمل في قصره. كم أكرهك يا غسّان، أكرهك.

قالت لها صديقتها تحاول تهدئتها:
-         لماذا تستبقين الأحداث؟ فهو لم يعرفك، ولو عرفك .. لرًبما طردك!

-         آه، آمل ألّا يكون وقحًا معي، وإلّا خطّطتُ لقتله شرّ قتله.

وعندما بلغتا واجهة القصر، وجدتا نسوة يقرأن الأسماء، فبعضهن كنّ يبتسمنَ، ويدخلن القصر مبتهجات، والبعض الآخر يرجعن خائبات حزينات.

قرأت فاطمة الأسماء، فوجدت إسمها، ففرحت، لكنّها سرعان ما حزنت حين لم تجد إسم صاحبتها. فالتفتت بوجهها نحو ريينا، فوجدتها مبتسمة، فاستغربت، وقالت لها متسائلة:
-         كيف تبتسمين وإسمك ليس موجودًا؟

ردّت بابتسامة، وبصوتٍ خفيض:
-         بل موجود، لكنّني نسيت إخبارك بأنّني قد غيّرتُ إسمي.

دُهشت فاطمة من مكر صاحبتها، ثم ضحكت:
-         يالك من امرأة ماكرة ومخيفة. وماذا سمّيْتي نفسكِ؟ ولماذا غيّرتيه؟
-         ريتا، أقرب إسم من إسمي. غيّرته كيْ لا تعلم أمي بوجودي هنا.

دخلت كل النّساء اللّائي وجدن أسمائهنّ، وفي الطريق إلى قاعة الاستقبال ف القصر، قالت فاطمة لصديقتها:
-         أرأيتِ، قلتُ لكِ لا تستبقي الأحداث! فغسّان لم يعرف وجهك.
-         أصبتِ يا صديقتي.

دخلن إلى القاعة، وهناك استقبلهنّ الثّري بوجه بشوش، فاصطففن أمامه، وكان عددهن اثنا عشرة امرأة، فأملى عليهنّ قوانين القصر، ووزّع عليهنّ أعمالهنّ، فوكّل ريينا العمل في المطبخ، بينما فاطمة، فقد وكّلها العمل في المخزن. وبعدما انتهى كلامها، طلب من حارسه الشّخصي أن يرشدهنّ إلى غرفهنّ، ثم يبدأن عملهنّ.

كانت غرف الفتيات في غاية الأناقة والبساطة، ففيها السّرائر من أجود انواع خشب المدينة، وعليه الفراش الوثير، والبطائن الزّهريّة. ويوجد في زاوية كل غرفة دولابًا بسيطًا صغيرًا يكفي حاجاتهنّ. وعلى أرضيّتها سجّادة دائريّة صغيرة، قد صُنعت من وبر الدّببة البيضاء. وكرسي وطاولة مقابل السّرير.

أثناء ذهاب ريينا إلى المطبخ، كانت تتضّجر في نفسها:
-         إنّ حظّي دائمًا مع المطابخ! في المنزل مطبخ، وهنا مطبخ، كم أبغضها. لكن سأصبر إلى حين بلوغ مرادي.

عندما دخلت المطبخ، كانت صدمتها بادية على وجهها حين رأت أنّه عكس ما توقّعت، فقد كان مرتّبًا ونظيفًا، والقليل من الصّحون المتّسخة على المغسلة، وليس فيه عملٌ كثير. استغربت كثيرًا من هذا الأمر! كيف أن يكون هذا القصر الكبير مرتّبًا إلى هذه الدّرجة؟ فبدأ الفضول يغلي كاللهيب في نفسها، فمرّت من المطبخ خادمة قديمة، فنادتها، وسألتها عن سبب هذا التّرتيب، فأجابتها بأنّ سيّد القصر يكره البذخ والإسراف، وهو إنسان غريب الأطوار، وأنّه برغم كراهيّته للتّبذير إلّا أنّه ينفق بماله إنفاق الذي لا يخاف فقرًا.

ثم نظرت الخادمة القديمة حولها، وهمست للجديدة:
-         سأخبرك سرًّا، بصراحة لقد كان قبلكنّ خادمات كُثُر، لكنّهنّ تركن عملهنّ بسبب أنّ الملل قد تمكنّ منهنّ بسبب ما عانينه من الفراغ المميت. فهو يجدد طلب الخادمات بين الفينة والأخرى، وليست أول مرّة يفعلها.

ذُهلت ريينا، وفكّرت بهذا الأمر، وتساءلت بغرابة عن تفكير أولئك الخادمات اللاتي يحببن العمل! لم تظنّ يومًا بأنّه يوجد نساء هكذا يبغضن الراحة والترف. وفي نفس الوقت، ابتهجت لكلام هذه الخادمة، ووجدت أنّ هذا الفراغ سيمنحها وقتًا للتخطيط كيْ تصل إلى ما جاءت لأجله.

***
          كان غسّان كلما واجه ريينا ينظر إليها بنظرات حادّة، ويتأمّل ملامحها، ويتيقّن بقرارة نفسه أنّ صاحبة هذا الوجه لم يكن موقفها عاديٌّ كما ظنّه من قبل. وهي لم تكن تبالي بنظراته، ولا تصرف وجهها عنه لكي لا يشكّ بها.

          ومكثت الصديقتان لأسابيع، وكانتا في أوقات فراغهما تقومان بتحرّيّات في أروقة القصر بحذر، ثم تعودان إلى غرفتهما.

(( .. لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))


الفصل الخامس



وفي أحد الأيّام، جاءت امرأة عجوز إلى القصر، فسألت عن ابنتها، فردّ عليها أحد الحرّاس:
-         ومن هي ابنتك يا سيّدتي؟

أجابته:
-         تُدعى ريينا، لقد فقدتها منذ شهر ونصف. وقد بحثتُ عنها في كل مكان. وقد سمعتُ بأنّكم قد وظّفتم خادمات جدد منذ فترة، فقررت المجيء إليكم، والسؤّال عنها.

مضى الحارس إلى غرفة غسّان، وسأله عن هذه الفتاة، فأجابه بأنّه لا توجد فتاة بهذا الإسم. ثم عاد إلى المرأة، وأخبرها بالأمر، فرجعت لمنزلها خائبةً حزينة.

لم تعلم ريينا بقدوم والدتها إلى هنا، وحتى لو علمت، فلن تكترث لها، فقد كانت تردد دائمًا في نفسها:
-         أنا في راحة لطالما أنّني بعيدةٌ عنها تلك القاسية.

هي تدرك بأنّ ما تفعله يُعتبر خاطئًا، ولا يبرّر الخطأ أي فعل، لكن أحيانًا يضطر المرء بأنْ يقرر قراراتٍ خاطئة كيْ تخف عليه ضغوطات الحياة. هكذا كانت تفكّر ريينا، وبناء على هذا تعيش حياتها.


***


وبعد أيّامٍ، استطاعت فاطمة، أثناء عملها، أن تكتشف بابًا سرّيًّا بالصّدفة، حيث كانت تقوم بتنظيف الممر المؤدي إلى المخزن، وعندما اتّكئت على الحائط، شعرت بأنّه يوجد وراءه فراغ! فتلمّسته بيدها، ففتح لها باب مخفي، ثم وجدت أنّه ممر مظلم. فأخبرت صديقتها به. وعادتا للتحرّي عنه في وقت فراغهما من العمل. وبعد تحرّيّات، اكتشفتا بأنّه إحدى الممرّات المؤدّيّة إلى قاعة سرّية أسفل القصر.

لم تجدا في القاعة ما يفيد، فقد كان هناك طاولة مستطيلة، وحولها بضعة كراسٍ، وعلى الحائط توجد ثلاثة رؤوس معلّقة لثلاثة حيوانات، في الحائط المقابل للباب يوجد رأس حصان، وعلى الجانب الأيمن رأس كبش، والجانب الأيسر رأس وحيد القرن. فاعتقدت ريينا بأنّ هذا المكان قد تم إنشاؤه لأجل الاجتماعات السّرّيّة، بينما فاطمة كانت لها نظرة عميقة ومختلفة عن صاحبتها، حيث تساءلت:
-         ما هو الرّابط بين رؤوس الحيوانات؟ ما شأنها في بعضها؟

أجابتها ريينا بلا اهتمام:
-         إنّها مجرّد رؤوس لحيوانات يا صديقتي. لنعد إلى غرفتك.

لم تقتنع فاطمة بكلامها، وعادت مع صاحبتها إلى الغرفة ليتحادثا قليلًا قبل النّوم. وكانت طوال الوقت مشغولة البال برؤوس الحيوانات الثلاثة، حيث أنّها كانت تقرّ في نفسها بأنّ ثمة علاقة وثيقة تجمع بينها، ولم تتواجد هناك في مكان واحدٍ عبثًا.

وعندما انتهيتا من الحديث، ذهبت ريينا إلى غرفتها. فقامت فاطمة برسم مخطط الغرفة على ورقة، ثم تمتمت بنبرة حماس:
-         بدأت لعبتي الآن.

          وعندما حلّ الصّباح، تدلت أشعّة الشّمس الصّفراء، من خلال النّافذة، على وجه فاطمة، ففتحت عيناها ببطئ، ثم وجدت أنّها نائمة فوق الورقة، فتفاجئت من نفسها كيف نامت دون أن تشعر! ثم قامت بغسل وجهها، ومضت إلى صاحبتها، فوجدت أنّها استيقظت، وخرجت إليها بوجه مبتسم، قائلة بهمس:
-         لقد وجدت خطّة ذكيّة لمعرفة ما يوجد بداخل غرفة مشعل.

ردّت صديقتها مستغربة:
-         ما هي؟

عرضت عليها ورقة قد كُتب بها كامل الخطّة، فتناولتها فاطمة، وقرأت خطّتها، فظهرت عليها الدّهشة بعدما انتهت، وقالت معترضة:
-         أجُننتِ؟
-         لا، لم أُجنّ، لكنّها فكرة ذكيّة، لن يكتشفها أحد.
-         وماذا لو حصل لأحدٍ مكروه؟
-         لا تقلقي، سيخرج الجميع إلى الحديقة، ونبقى أنا وأنتِ في الدّاخل، وقد جلبتُ كل الاحتياطات. ثقي بي، ستنجح الخطّة.

لم تطمئنّ فاطمة لكلامها كثيرًا، فوافقت.

(( .. لغز الرّؤوس الثّلاثة .. ))


الفصل السّادس


وعند الظّهيرة، شبّ حريق في القصر، وراحت النّار تلتهم كل شيء في طريقها، وكانت تكبر كلّما تحرّكت خطوة. فاستنفر الحرس، وقاموا بإخراج الشّاب الثّري إلى الخارج، وخرج أيضًا ساكنوه، منهم الخدم.

وقام بعض الحرّاس بمحاولة السّيطرة على النّيران. وفي غمرة انشغالهم بإخماد النّار، وجدت ريينا وصديقتها فرصتهما بالدّخول إلى غرفة مشعل للبحث عن مكان المال، وكانت فاطمة خائفة، فقد بحثت بخوف من أنْ يدخل عليهما فجأة أحد الحرس، فيلقي القبض عليهما متلبّستيْن.

مرّ الوقت، ولم تجدا شيئًا، فغضبت ريينا، وأمسكت دلوًا صُنع من الفخّار، وقذفته على الأرض، فخرج صوت صدى تحطّمه إلى الخرج مما دعا اثنان من الحرس يدخلان إلى الغرفة لتقصّي الأمر. ولما دخلا، لم يجدا شيئًا سوى بقايا ذلك الدّلو على الأرض متناثرة، فنظر كلٌّ منهما في وجه الآخر، وقال أحدهما:
-         كيف سقط رغم أنّ الجميع في الخارج؟!

ردّ زميله:
-         رُبما من الهواء؟
-         غبي! الهواء لا يُمكنه تحريك دلو الفخّار! لندخل ونبحث جيّدًا.

كانت الخادمتان مختبئتان في دولاب صغير، وقد خافت فاطمة كثيرًا، وتسارعت أنفاسها، فأشارت إليها صاحبتها أن تكتم النّفس قدر المستطاع إلى حين مغادرة الحارسان.

ومن حسن الحظ، أنّ غسّان نادى على كل الجنود، بعدما تم إخماد النّيران بالكامل، فخرج الحارسان من الغرفة تلبية لنداء كبير الحرس. فتنفّست الصديقتان الصعداء، فخرجت ريينا قبل فاطمة، فراقبت المكان جيّدًا، ولما رأت أنّ الحرّاس ابتعدوا، أومأت لصاحبتها بالمغادرة.
قالت ريينا:
-         اسمعيني، افعلي ما سآمركِ به.

سألتها فاطمة بدهشة:
-         وماذا ستفعلين أيضًا؟
-         سنذهب إلى غرفتي، وحالما نصل، سنقوم بتمثيلية، لو نجحت، فسيمكننا أنْ نبعد الشبهات عنّا.

ردّت فاطمة بضجر:
-         يا إلهي! أنتِ ستضعيننا في وضع حرج.
-         لا عليك، ثقي بي وفقط.

في طريقهما، قامت ريينا بلطخ وجهها من أثر الحريق، وقامت صديقتها بنفس الفعل. وفي الغرفة، سقطت ريينا على الأرض، وذهبت فاطمة تستنجد بالجنود لإنقاذ صديقتها، فسألها غسّان بانفعال:
-         ولماذا لم تخرجا مع بقيّة الخادمات؟

مسحت فاطمة دموع الكذب، وأجابته:
-         لقد كدنا أن نخرج لكنّ النّيران قد حالت دون ذلك، وبقيت في غرفة صديقتي نصارع أنا وهي الأدخنة، وهي لم تحتمل، فسقطت مغشيًا عليها.

ثم صاحت:
-         أرجوكم أسرعوا قبل أن تموت!

أسرع جنديٌّ، وهو طبيب متخصص، يتبع فاطمة إلى غرفة صديقتها، وقام بعلاجها على الفور، ثم ادّعت ريينا الاستفاقة بتمثيلية متقنة. وحين خرج الجندي، أغلقت فاطمة الباب، وضحكتا على ما قامتا به.

علّقت ريينا قائلة لصاحبتها:
-         ألم أقل لكِ أنْ تثقي بي! كوني هكذا دائمًا، ولا تخشي شيئًا.

***

          في الليالي التي تلت حادثة الحريق، عكفت فاطمة على حل اللغز. وكانت تسرح في النّهار أثناء عملها، وحتى أثناء جلوسها مع ريينا، فقد شغل رأسها تلك الرؤوس.

          وذات ليلة، شعرت بأنّها توصّلت للحل، فقالت:
-         الحل يكمن تحريك الرّؤوس، هذا هو بلا أدنى شك، لكن لهذا الحل طريقة، وأظنّه يكون عبر ترتيب الحيوانات حسب الحروف الهجائية! مثلًا سأبدأ بحرف (حاء) الحصان، ثم (كاف) الكبش، ثم (الواو) وحيد القرن.

فبدت ابتسامة واسعة على وجهها، وأكملت بانفعال كبير:
-         لا يمكنني الصبر أكثر، يجب علي الذّهاب لريينا، ثم إلى تلك القاعة.

ذهبت لصاحبتها، وأخبرتها بأنّها ستريها مفاجأة. ففي أوّل الأمر رفضت مرافقتها، لكنّ فاطمة ألحّت عليها بالذّهاب معها.

قالت ريينا بملل:
-         حسنًا، سآتي معك، وآمل ألّا يكون أمرًا يخص تلك الرّؤوس!

نزلتا إلى القاعة، وأول ما فعلته فاطمة هو أنّها اندفعت بحماس نحو رأس الحصان، فأنزلته إلى الأسفل! فصُعقت ريينا، وقالت:
-         ما هذا؟ أيعقل أنّ هذه الرّؤوس تخفي أمرًا؟

ثم حرّكت فاطمة رأس الكبش، ثم وحيد القرن، لكن لم يحدث شيء! فشعرت بالحزن، وبكت لأنّ استنتاجها خاطئٌ. فقالت لها صاحبتها:
-         لنعد، لأنّ حلّ هذا اللغز يبدو مستحيلًا.

ردّت فاطمة رافضة:
-         كلّا، لن أعود حتى أكشف اللغز. فإنّني أرى وجودي أمامه سيسهل الحل لي.

تنهّدت ريينا، ومضت إلى أحد الكراسي، فجلست عليه، وأسندت بذقنها على كفّها، وقالت:
-         كما تريدين، سأبقى أنظر إليك وأنتِ تحلّين لغزك.

تأمّلت فاطمة ببصرها ناحية الرّؤوس، وحدّت بنظرها أكثر، وتروس عقلها تتحرّك مع كل لحظة تفكير تمرّ بها. شعرت بأنّ خلايا المخ تتنشّط، وبدأ ذكاؤها ينمو أكبر وأكبر. وفي لحظة ما، أحسّت بأنّ تركيزها يتوجّه نحو قرون الحيوانات، حرّك هذا الأمر خلاياها أكثر، ثم تيقّنت الحل حين رأت بأنّ القرون جاءت متتاليّة، بدءً من الصّفر، حتّى الاثنان. 

فصاحت بيقين وثقة:
-         وجدتها، إنّها القرون.

تثاءبت ريينا، وفركت عينها، وردّت:
-         القرون أو السنين؟

التفتت فاطمة ناحيتها، وقالت لها:
-         ليس هذا وقتك يا ريينا، لقد حللت اللغز، أنا متأكّدة.

ثم مضت إلى رأس الحصان، فحرّكته، ثم وحيد القرن، وبعده الكبش، فاهتزّت الطّاولة فورًا، وانفصلت إلى نصفين، فقامت ريينا فزعة إلى صاحبتها. ثم ظهر لهما بابًا سرّيًّا به درج صغير يقود إلى غرفة، تقع في الأسفل، مكان الطّاولة.